عبق الختام للمونديال
عندما ينتهي حدثٌ ما يقولون: أسدل الستار، ونحن نقول بعد الحدث الجامع والتنظيم البارع والمشهد الرائع والختام الماتع (قطر 22) نقول لم يسدل الستار بعد. الآن أيها السادة تبدأ قصة الحضارة هنا في دوحة العرب. لم يكن الأمر مجرد لعب ولهو وفائز وخاسر وكأس وحوافز، إنما تَدَاعِي لمنظومةٍ من القيم تمثل مدرسةً ومنهجاً لكل العالم، ومسلكاً وديدناً للشعوب والأمم، وهي مجموعة من المبادئ والمعايير، بل الفضائل التي ترشد الأفراد والجماعات إلى مراعاة (الآخر) وهي أداة فاعلة في إدارة العلاقات الإنسانية وتحسين السلوك المجتمعي وتحقيق كرامة الفرد في إطار تعايشي سلمي محتمل بين الأفراد في ظل الفروقات والاختلافات في العرق والجنس واللون أو الدين والرأي والمذهب. وطالما طالعتنا الهيئات والمنظمات الدولية بمواثيق وبيانات ونظم تحث وتدعو إلى حماية وصيانة حقوق الإنسان وحفظ السلام العالمي واحترام الديانات وحسن إدارة التنوع الثقافي، وكم عقدت من مؤتمرات وندوات وكم أصدرت من قرارات وتوصيات يحسبها الظمآن ماء حتى إذا جاءها لم يجدها شيئا، ولكن قطر قبلت التحدي واتخذت من الرياضة سبيلاً للتعايش السلمي وقدمت درساً عملياً أخرج العالم من دائرة التنظير إلى التحقيق تحت سمع ونظر المليارات من المشاهدين في كل بقاع الدنيا. وكانت آية الافتتاح (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا- أي تقيموا المعروف بينكم-) خيرَ شعارٍ لهذا المونديال المتفرد. و جاءت شهادة رئيس الإتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) و هو يعلن ويجدد شكره لدولة قطر على استضافة كأس العالم 2022 مؤكدا أنَّها النسخة الأفضل من كأس العالم على الإطلاق، و يقول: ( ما قاموا به للترحيب بالعالم في هذه الدولة الجميلة مذهل، إذ شعر الجميع أنه في بلاده) .
وتداعت قيم الجمال المادية والمعنوية فاكتست أرض الدوحة ثوباً من الجمال فالجو كان صحواً وعندما يبرد يتدثر الضيوف بدفء المشاعر وحرارة الاستقبال من شعب قطر المضياف والذي لم يدخر ذرةً من نخوةٍ في سبيل إسعاد ضيوفه. وكانت الملاعب تحفاً فنية لم يألفها عشاق كرة القدم في سابق عهدهم، وكان الأداء الراقي لنجوم الكرة الدوليين ومبدعيها قيمة جمالية إضافية. وخلت المدرجات من مظاهر العنف والتفلتات الأمنية، بل كان هناك جو من المرح والفرح. وكان صوت الأذان فاصلة روحية كم أبكت وكم أطربت وأفرحت قلوباً تاقت للانضمام لهذا الركب الميمون، فنطقت بالشهادة طوعاً لا كرهاً، كل شيء كان جميلاً فرأينا الوجود جميلا، سبحانك ربى ما أبدعك، حركة انسيابية ما بين تاكسي وبص ومترو ومشياً بالأقدام وتمتعاً بمشهد الكورنيش وحدائق البدع وكان التراث القطري حاضراً في سوق واقف والمتحف الوطني والفن الإسلامي والقلاع التاريخية وكانت كتارا رائدة الدبلوماسية العامة رمزاً للجمال والإبداع، وقدمت الجاليات تراثها وثقافاتها فأحس الجميع تحت سماء الدوحة وكأنهم في أوطانهم، بل كانت سانحة للتعارف مع الآخر.
وتداعت القيم الأخلاقية التي حَدَّثَتْ العالم عن وسطية الإسلام بدلاً عما كانوا يلحقونه به من نعوت إما ظلماً وبهتاناً وعدواناً أو جهلاً فوصموه بالإرهاب والتطرف والغلو، وتعرف العالم على قيم الإسلام ومبادئه في حرية الاعتقاد والتعبير واحترام الآخر وقبوله وتقديره ورأوه كيف تدثر المسلمون بالحب والعاطفة والتسامح وإفشاء السلام ورفض العنف. وأدهشهم الكرم العربي والبذل والعطاء والإيثار الذي لم يروا له مثيلاً من قبل.
حققت قطر قيادةً وشعباً وفي كل المجالات إنجازاتً سيسجلها لها التاريخ بأحرف من نور على صفحات من ذهب وبذلك استحقت أن تكون تاجاً على رأس أمتنا العربية والإسلامية وأملا في أن تعود سيرتها الأولى فلا مستحيل تحت الشمس، وكذلك وساماً على صدر كل واحدٍ منا نحن أبناء العروبة والإسلام، ونجمة في سماء الدنيا.
شكراً سمو الأمير تميم المجد فقد كنت رأس الرمح، بل السهم الذي رمت به الأمة بعد أن نثرت كنانتها، فاختارك القدر من بين أبنائها لتحمل العبء الذي تنوء عن حمله الجبال ولسان حالك يقول لشبابنا:
لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصَبِرا
شكراً سمو الأمير الوالد فقد جئت بالبشرى والفأل الحسن و وضعت الأساس المتين فجاء البناء متيناً و الأداء رصيناً، وعندما قبلت التحدي كان لسان حالك يقول:
هذي يَدي لسماءِ المَجْدِ أرْفَعُهَا
رمزاً يُشيرُ إلى المستقبلِ الحَسَنِ
لما نُرَجِّيه تحت الشمس من وَطَرٍ
وما نُفَدِّيِه بالأرواح من وطنٍ
زفوا البشائرَ للدنيا بأجمعِها
وللعروبةِ مِنْ نَجْدٍ إلى يمنِ
إنَّا خرجنا وأَرْهَفْنَا عَزَائِمَنَا
للنهوضِ بشعبٍ للعُلا قَمِنِ
الله أكبر هذا الرَوْحُ أَعْرِفُه
إذا تَذَكَرْتُ أيامي ويعرفني
كُنَّا نُنَمِيه سِرْاً فيِ جَوَانِحِنَا
حتَّى اسْتَحَالَ إلى الإجْهارِ والعَلَنِ.
شكراً أبناء و بنات قطر فقد كنتم عند ظن قائدكم الذي اختار لكم شعار الاحتفال بالعيد الوطني ( قوتنا في وحدتنا) فتكاملت جهودكم و لم يتخلف أحد، الأفراد (رجالاً و نساء شيباً و شباباً) المؤسسات والوزارات ، الجامعات و المعاهد و المدارس، الأمن و الجيش و الشرطة، الرياضيون و الأدباء و الكتاب و الفنانون و المفكرون ،القطاع الخاص والعام، و نال الإعلاميون أفراداً و هيئات قصبَ السبق و القِدْحَ المُعَلَّىَ فكانت قطر تحت سمع و بصر العالم من جاء و من شاهد من مقامه، وعزفتم سيمفونية الوطن الرائعة و رستم لوحة الوحدة و المحبة لوطنكم الشامخ و نلتم شرف الانتماء لهذه الأرض المباركة.
شكرا قاطني قطر شكرا لاختياركم قطر فقد أحسنتم الاختيار
والى انجاز اخر بعون الله وتوفيقه.
د. مصطفى عثمان إسماعيل الأمين
جامعة حمد بن خليفة
وزير خارجية السودان الأسبق