المثل السوداني يقول: “الجري قبل الشوف قدلة”، وهو يعني ضرورة الاستعداد للأمور قبل حدوثها، أو على أقل تقدير مبكراً، بحيث نتلافى العواقب غير المرغوبة، ونحن في واقع الأمر رأينا ما حل بمجتمعنا، خاصة في الريف، من تحول مريع جعله بحاجة لإعادة هيكلة وصياغة عاجلة إذا أردنا أن نتدارك مستقبل الآلاف من الشباب الذين وجدوا أنفسهم أمام خيارات صعبة حيث ازدادت معدلات الفاقد التربوي وانتشرت الأعمال الهامشية وتشغيل الأطفال دون سن الثامنة عشرة، وهذه كلها مؤشرات لا تتوافق مع أهداف الألفية كما أعلنتها الأمم المتحدة وهي تشمل توفير التعليم الابتدائي لجميع الأطفال والقضاء على الفقر، والنهوض بالتنمية، وحماية البيئة. والسودان بأمس الحاجة لتطبيق هذه الأهداف خاصة بعد الحرب التي زعزعت الشعب وعطلت عجلة التنمية والإنتاج وأوقفت الدراسة في جميع مراحل التعليم بلا استثناء! وإزاء هذا الوضع نسعى لعرض وصفة قد تساعد في انتشال المجتمع من هذه الوهدة.
ومن الضروري أن يكون الإنسان هو محور هذه الوصفة التي تهدف لتحسين وضع المجتمعات وفق أسس مدروسة وقابلة للتنفيذ تتوافق مع متطلبات هذا العصر وتضع في الحسبان مقدرات المجتمع وموارده البشرية ومصادره الطبيعية، خاصة الأرض. لذلك نقترح تقديم رؤية لتنمية ريفية شاملة انطلاقا من مفهوم أن: “التنمية الريفيّة هي العمليّةُ التي تهدفُ إلى تطوير الحياة في الريف، والتحسين من نوعيتها، وتقديم الدعم الاقتصادي للأفراد الذين يعيشون في المناطق الريفيّة، وأيضاً تُعرفُ التنمية الريفيّة بأنّها الاستفادة من الأراضي الزراعيّة، من خلال تنمية الموارد الطبيعيّة التي تساعدُ على توفير الحاجات الأساسيّة لسكان الريف، بما في ذلك الأمن والمسكن والملبس والتعليم والرعاية الصحة.”
مجتمعنا الآن بحاجة لاستراتيجية ثلاثية الأبعاد بمعنى أن تكون اجتماعية- نفسية- تربوية من أجل إعادة التوازن للفرد والمجتمع وهذا يتطلب جهد مضاعف من المختصين في هذه المجالات ويحتاج مؤسسات تربوية تتوفر لها إمكانيات وقدرات معقولة حتى تستطيع القيام بدورها وتحقق الأهداف المرجوة منها. وفي هذا الصدد يلزم إعادة نظام التعليم الداخلي على أقل تقدير في رئاسات المحليات وعواصم الولايات بحيث تكون هنالك مدارس داخلية مثلما كان سابقاً يشرف عليها معلمون مؤهلون من ذوي التأهيل العالي والخبرة التربوية وتكون مجهزة لتقديم برامج لاصفية مدروسة مصاحبة للعملية التربوية والتعليمية لتحبب الدراسة للطالب وتقدم له تعليم نوعي وتدريب يشمل مهارات مثل استخدام الحاسوب والبرامج والتطبيقات المختلفة، على أن يشمل ذلك “الكديت” أو التدريب العسكري للطلاب. ويجوز مشاركة المجتمع وأولياء الأمور والخيرين في تمويل مثل هذه المدارس حتى لا يتوقف نشاطها.
ومن جانب آخر، من المهم جداً إنشاء مراكز تدريب مهني متطورة بالتعاون مع الجهات والمنظمات الدولية والإقليمية التي تعنى بالتنمية الريفية مثل بنك التنمية الإسلامي وصندوق المناخ الأخضر والصناديق العالمية والشركات والجهات الحكومية ذات الصلة والسعي للاستفادة من تجارب الدول التي سبقتنا في هذا الصدد مثل كوريا الجنوبية والهند. هذا التوجه يضمن إكساب المتدربين مهارات عملية في مجالات الزراعة والبيطرة والنجارة والحدادة والميكانيكا والكهرباء وغيرها مما هو مطلوب لتنمية المجتمعات حتى يكون المتدربون مؤهلين للحصول على وظائف تربطهم بمجتمعاتهم المحلية بحيث يكونون قدوة لغيرهم باعتبار أن الإنسان هو محور التنمية ولابد من ربطه بأرضه ومجتمعه.
ومن الضروري في هذا التوجه مكافحة العادات الدخيلة في المجتمعات وتنبيه الناس لعدم الاهتمام بالمظاهر وقشور التطور السالبة مما ارتبط بعملية التعدين الأهلي في كثير من المجتمعات الريفية، مع السعي لتوظيف طاقات الشباب ومدخلاتهم لإحداث تنمية فعلية وليس مجرد اغتناء أشياء ليس لها مساهمة في تطوير الذات أو المجتمع. وهنا يأتي دور الإعلام والتراث لنشر الوعي وترسيخ القيم النبيلة والحض على العمل المثمر والمستدام. ومن هذا المنطلق لابد من سن قوانين ولائية وقومية رادعة من شأنها التصدي لكثير من المظاهر التي تحد من مساهمة الفرد في تطوير وتنمية المجتمع كالصرف البذخي والتباهي والسلوك غير المنضبط في كثير من المناسبات، مع بسط الأمن وهيبة الدولة.
نحن بحاجة لإعادة النظر في جميع مناحي حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والتربوية لنعيد صياغة المجتمع ليتحول لمجتمع منضبط ومنتج وذلك لن يتحقق إلى بتضافر جهود كل الجهات المجتمعية والرسمية وطلب المساعدة من الهيئات والمنظمات الدولية والإقليمية والمحلية، نظراً للتحول المخيف الذي طرأ على مجتمعنا خاصة في الريف قبل الحرب وبعدها، والمثل السوداني يقول: ود البدري سمين”!




