
يعيش التعليم العالي في السودان محنته الكبرى، وكأن الجامعات أضحت أطلالاً تنوح عليها الرياح، بعدما هجرها طلاب الأمس الذين كانوا يحلمون بمدرجاتها الواسعة ودفاترها المشرقة. نتائج القبول الأخيرة لم تحمل بشارة، بل جاءت كجرس إنذار يقرع في قلب الوطن؛ إذ انصرف نحو 40% من الطلاب عن التقديم، فيما ظلت كليات وأقسام بكاملها خاوية على عروشها، مثل الزراعة والتربية في جامعات أم درمان الإسلامية والسودان وولايات دارفور وكردفان.
الأرقام تنزف ألماً: جامعة السودان التقانية لم تجد غير 16 طالباً من أصل أكثر من 4,600 مقعد، ومعهد الخرطوم الدولي للغة العربية لم يطرق بابه أحد. أما الجامعات الخاصة، التي كانت يوماً ملاذاً، فقد تراجعت بدورها؛ فجامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا لم تستقبل سوى 37 طالباً من أصل أكثر من ألف، فيما اكتفت جامعة الأحفاد بـ128 طالبة فقط من بين آلاف المقاعد المشرعة.
هذه المأساة لا تنفصل عن الغلاء الفاحش الذي جعل التعليم حلماً بعيد المنال. أن تبلغ رسوم دراسة الطب على النفقة الخاصة بجامعة الخرطوم 25 مليار جنيه سوداني، فذلك رقم يتجاوز قدرة الأسر التي طحنها الفقر وحاصرتها الأزمات.
وكأن المصائب لا تأتي فرادى؛ فالحرب ألقت بظلالها الثقيلة على القاعات والمعامل، فدُمّرت أكثر من 103 جامعة أو أُغلقت تماماً، وتحولت بعض الحُرم الجامعية إلى ثكنات عسكرية، تنهشها وتخربها مليشيات آل دقلو الإرهابية بلا رحمة.
المشهد قاتم، والمستقبل مهدد بالهاوية ما لم تتداعَ الدولة والمجتمع معاً لإنقاذ ما تبقى من هذا الصرح الذي يمثل عقل الوطن وروحه. إن إعادة بناء السودان لن تقوم على الطين والحجارة وحدها، بل على عقول متعلمة، تمتد من رياض الأطفال إلى مدارج الدراسات العليا، وتنطلق من رؤية اقتصادية واجتماعية شاملة.
ويقيني أن الأمن والسلام هما المفتاح الوحيد للنجاة، وأن التعليم هو جسر العبور نحو غدٍ لا يكون فيه الوطن أسيراً للجهل ولا الجامعات عنواناً لـ “ميتة وخراب ديار”.
Khalidfaki77@gmail.com


