مقالات

ثادق ..زيارة واحدة لا تكفي!

بقلم / محمد التجاني عمر قش

بعض الأشخاص إذا اتصل بك فأعلم أن الأمر خير كله، ومن هؤلاء صديقي العزيز أبو مصعب الأستاذ أحمد المصطفى إبراهيم، وزد يقيناً بالخير إذا اقترن اتصاله بصوت رجل من الأخيار كالدكتور حمد العاصم، أحد الوجوه المشرقة والوضيئة من مدينة ثادق الواقعة إلى الشمال الغربي من العاصمة السعودية الرياض.

وثادق هي أحدى حواضر وقرى نجد القديمة فقد ذكرها أكثر من مؤرخ وباحث وهي غنية عن التعريف وأشهر من أن أتحدث عنها في هذه المساحة المحدودة، وهي بشكل عام مدينة وادعة ذات طابع خاص من حيث الموقع الجغرافي ومن حيث طبيعة سكانها الذين يجمعون بين الأصالة والمعاصرة وبين حياة الريف والمدينة، وهم شديدو الارتباط “بديرتهم” ويكفي (ثادق) ما جاء على لسان شاعرها عبدالله بن سعد بن عمار:

أحب ثادق من محبة هلي

جداني اللي دفنوا في ترابه

اللي نزل في ديرتي ما يملي

لو هو غريب كنهم له قرابه

وأنا أشهد بصحة ما جاء في البيت الأخير أعلاه إذ أن من ينزل أو يحل ضيفا في ثادق لا يشعر بأنه ضيف أو غريب، فعندما حللت تلك الربوع تلقاني الأخ حمد العاصم وربعه بوجوه كالربيع الطلق يختال ضاحكاً من الحسن والحفاوة وأدخلني إلى تلك الدار التي جمعت بين السعة والبساطة والحداثة وازدادت ألقاً وطلاوة ورونقاٌ بوجود ثلة من الإخوة الكرام ذكروني بقول الشاعر:

لِلَّهِ دَرُّ عِصابَةٍ نادَمتُهُم يَوماً بِجِلَّقَ في الزَمانِ الأَوَّلِ

يُغشَونَ حَتّى ما تَهِرُّ كِلابُهُم لا يَسأَلونَ عَنِ السَوادِ المُقبِل

فمعظم الحضور في تلك الليلة من ليالي العمر الخالدة كانوا من الذين عملوا في مهنة التدريس وجمعتهم الزمالة وهم جميعاً من قرى المحمل موطن العلم والعلماء منذ قديم الزمان فلا غرو أن عمل أبناء ثادق في أشرف مهنة عرفها تاريخ البشرية وهي التدريس ونشر العلم وتبصير الناس بشؤون دينهم ودنياهم.

وقد حطت الرحال في ثادق والمحمل وقراها مجموعات متنوعة من قبائل العرب مثل بني تميم وقحطان فتزاوجوا وامتزجوا وزالت بينهم جميع الحواجز والفوارق فأخرجوا للناس مزيجا متفرداً ونسيجا وحده تميز بالتحضر والفروسية والكرم والعلم حتى قال فيهم الملك عبد العزيز طيب الله ثراه “قربوا أهل ثادق مني، فإن لهم شأناً عندي” فهذه دلالة واضحة على مكانة أهل ثادق لدى مؤسس المملكة العربية السعودية وأبنائه من بعده.

تسكن في ثادق حاليا عوائل كثيرة لها باع طويل في العلم والتجارة والوظائف المرموقة للدولة وقد لا يتسع المجال لذكرهم.

عموماً، وصلت ثادق وقد أرخى الليل سدوله وحللت ضيفاً على الدكتور حمد العاصم وربعه الميامين وهم يحتفون بالزميل وصديق العمر أبي مصعب فغمرونا بفيض كرمهم وحسن استقبالهم كما أسلفت ودار بيننا الأنس الجميل بلا تكلف أو اصطناع في ذلك المجلس العامر الذي جمع بين الأصالة والحداثة والبساطة. وبما أنني من الذين عاشوا صباهم الباكر في قرى وبادية شمال كردفان في السودان، فقد ذكرني ذلك المجلس وتلك الأريحية المحببة إلى النفس والمفعمة بالكرم بقول الشاعر السوداني محمد عمر البنا:

رفاق الضيف أنّى حلّ هبّوا لهم للضيف ضم والتزام

إذا نحروا العِشار مُودّعات فلا مَنٌ بذاك ولا كلام

كما ذكرتني النسائم الحلوة والهادئة التي كان تهب على المكان في ذلك الليل الهادئ بقول ميسون الكلابية:

لبيتٌ تخفقُ الأرواح فيه أحبُّ إليَّ من قصرٍ منيفِ

وفي مثل هذه الأماكن والأجواء يطيب المقام ويلذ الأنس وترتاح الأنفس ويزول الهم عن القلوب والأرواح ويشعر المرء بالراحة من رهق المدن وزحمتها وضوضائها التي تصم الآذان، وهذا ما جعلني أقول إن زيارة واحدة لثادق لا تكفي، فكلما زرت هذه الديار شعرت بالعودة إلى الحياة وأعدت برمجتك النفسية والشعورية، بلا أدنى شك.

غادرت ثادق والشمس قد بسطت سيادتها على الطريق وأرسلت أشعتها على تلك التلال ذهبية اللون التي تتخللها أشجار الأرطى أو ما يعرف عندنا في السودان “بالمرخ” وقد جارت عليه أيدي البشر بالقطع حتى كاد يقرض وكأنهم لم يدروا بشعر المرقش الأكبر وأظنه كان يتحدث عن ثادق في قوله:

سَرى لَيْلاً خَيالٌ مِنْ سُلَيْمى …. فأَرَّقَني وأصْحابي هُجُودُ

فَبِتُّ أُدِيرُ أَمْرِي كلَّ حالٍ …. وأَرْقُبُ أَهْلَها وهُمُ بعيدُ

عَلى أَنْ قَدْ سَما طَرْفِي لِنارٍ ….. يُشَبُّ لها بذِي الأَرْطى وَقُودُ

حَوالَيْها مَهاً جُمُّ التَّراقي …. وأَرْآمٌ وغِزْلانٌ رُقُودُ

وتقع ثادق على واحد من أشهر أودية نجد وهو وادي عبيثران، وهذا الوادي يقصده كثير من الناس للنزهة والترويح، والعبيثران أو الشيح وهو نبتة عطرية فواحة عرفها العرب منذ زمن بعيد وكانت الفتيات يستخدمنها لتخفيف الوزن والرشاقة، كما جاء في قول أبي الطيب المتنبي:

جَلَلاً كَما بِيَ فَليَكُ التَبريحُ … أَغِذاءُ ذا الرَشَأِ الأَغَنِّ الشيح

وإذا زرت ثادق فلا تنسى التطواف بالبلدة القديمة فهي سوف تسعد روحك بعبق الماضي ورائحة الأجداد الأوائل وذكراهم ، ولا تنسى زيارة حافة العالم على طرف جبال طويق فسوف تمتع ناظريك بمشهد يبقى في الذاكرة ما تعاقب الجديدان. ولا يفوتني أن أذكر في هذا المقام قول الإمام الشافعي رحمه الله:

تَغَرَّب عَنِ الأَوطانِ في طَلَبِ العُلا …. وَسافِر فَفي الأَسفارِ خَمسُ فَوائِدِ

تَفَرُّجُ هَمٍّ وَاِكتِسابُ مَعيشَةٍ …. وَعِلمٌ وَآدابٌ وَصُحبَةُ ماجِدِ

وقد تحقق كل ذلك خلال إقامتي في المملكة ومن تلك الرحلة التي قمت بها إلى ثادق في نهاية الأسبوع المنصرم.

في الختام لا يسعني إلا أن أشكر الإخوة الكرام أهل ثادق على حسن الاستقبال وكرم الضيافة ونسأل الله أن يوسع لهم في أرزاقهم وينسأ لهم في أعمارهم ويبارك لهم في ذرياتهم ويزيدهم من فضله، ونسأل الله تعالى أن يديم نعمة الأمن والاستقرار على هذه البلاد الطيبة.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى