ثقافة

قصة قصيرة .. ذاكرة الاورنيش


السادسة مساء بتوقيت الضفادع. في شارع الحرية والانسان مسجون في امتار قليلة من الارض الجافة التي تتمدد وتختفي، يتزاحم عليها الالاف من كادحي المدن. الشوارع المتسخة ثملة بشربوت الطين وارجل المتعبين واطارات العربات، وركشة على استحياء تمخر عباب الماء وسائقها يستعين على المطر باغاني الزنق. ست الشاي تلعن المطر وموظف البلدية الذي دفعت له ايجار الشارع صباح اليوم قبل ان تقاسمها الكلاب والقطط مساحة اضيق من خٌلق الكمساري، ما زالت ترقب الزباين وتدعوا لهم ان يجدوا ارضا جافة، ربما بعد ذلك سيتذكرون الشاي.

“سيدها” صاحب الاورنيش يجول الشوارع ويبحث عن المجنون الذي سوف ينظف حذائه في هذا الخريف، لا بد ان شخصا ما لديه موعد هام ويبحث عن اورنيش؟ ترى اين هو؟ ينظر الى المارة عيونهم مثبتة على الارض تبحث عن وطن جاف فلا تجده. الخريف يوحد الناس يجمعهم ويقربهم ..وتتلاشى فوارق (انت من وين) .. الغرباء يلعنون البلدية و جشع سائقي الحافلات وعسكري المرور! “سيدها” ينضم للحوار يقسم ان دلع اصحاب الحافلات مصيره جهنم. سيدها لا يصلي ولكنه واثق انه لا يوجد بتاع اورنيش في جهنم، انها ممتلئة باصحاب الحافلات وموظفي المحلية وبوليس الكشة.

اكشاك المرطبات تئن بالموسيقى التي تدفعك الى ان تنسى مؤقتا رهقك اليومي مقابل ثواني من الزنق النبيل، و الدنيا تضيق والمطر يختم زيارته المفاجئة بمداعبة كلب اهتدى الى ماوى بعد ضلال طويل. انه المطر يعيد ترتيب الادوار ويعطي البعض فرصة لخلخلة الاماكن. بائع السجاير يبدو في نشوة مع نفس طويل يتوه بين الرئة والطين. وحده بائع التمباك من يبدو سعيدا وهو يدرك كيمياء الخريف على اصحاب الكيف وكيف يبدو جيبه في نهاية اليوم، مزيدا من الكيف يا خريف.

اورنيش. صاح احدهم؟ كان “سيدها” في المكان المناسب؟ اي يا استاذ. بالله لمع لي الجزمة دي.
الجزمة التي مر عليها اكثر من خريف لم تذق فيها طعم الاورنيش، “سيدها” يعرف ان هذا الزبون لن يدفع كثيرا، لذا اتفق معه على السعر اولا واظهر له مقدارا من الاهتمام يساوي ما دفع، “سيدها” يعرف انه لا بد ان يرضي الجميع دون ان يخسر اورنيشا. قبض جنيهات مبللة حشرها في جيب البنطلون وذهب الى زقاق العضة.
“سيدها” محتار من صاحب الاكل الذي يستحق شقا يومه؟ اهو اخصايئ الطعمية او ست الشاي واللقيمات او ربما عليه ان يسرف قليلا ويجازف ليهو سندوتشا من الفول الضاني؟ في نشوة التخمة التي اصابت جيبه قرر سيدها ان يعلي سقف امنياته ويتناول الشاورما. نعم انها الشاورما التي تليق ان تكون احتفالا مع مساء غارق في جوعه. لنجعلها طينا اكثر مما هي عليه، قال “سيدها” متذكرا الموبايل الذي اشتراه بالتقسيط من الحرامي، ووعده ان يدفع له كل يوم.

سيدها في طريقه الى كشك الشاورما يلمح “الجميلة” تساعد “امنا” – هكذا كان يناديها الزباين- في توزيع الشاي واللقيمات، تردد للحظات ثم واصل مسيره. في طريق العودة تعمد ان يشق طريقه عبر زباين ست الشاي وهو يمتطي سندوتش الشاورما كمغترب جاء من المطار. جلس على البنبر وجاءته “الجميلة” اجيب ليك شنو؟ ثم باغتته بسؤال: انت الشاورما دي لمنو؟ هل استنكرت عليه الشاورما او هو مطر البنات؟ نظر لها من وراء غيمة وفاجاها بالهطول: السندوتش دا ليك. ثم ناولها الكيس. ضحكت وشكرته واخدت السندوتش بذوق الشوارع. تمتمت ولم يتبين ما قالته وسط ونسة الزباين و دخان الشيشة وغلاط ناس الكورة.

عادت “الجميلة” ومعها الشاي وقالت ليهو شلت منك الشاورما وجبت ليك بدلها لقيمات. ضحكت ربما لانها تعرف ايهما اكثر ترفا. شرب الشاي على ابتسامة “الجميلة” واللقيمات وشبع المضطر.
سرعان ما تلاشت لحظات الشبع المزيف، نادته عصافير معدته ان الابتسامة لا تشبع، وان عليه ان يبحث عن عشاء في هذا المطر. حينها ادرك انه اهدى للجميلة سندوتشا كامل المعاناة -او الدسم- لا فرق. قال “سيدها” لنفسها هذا السندوتش يساوي اكثر من ابتسامة. هز راسه وكانه يطلب من خياله ان يتادب في حضرة “الجميلة”. ابتسم ونقلها الى المكان الامن في عقله، حيث لا كشة ولا بلدية وحيث الاورنيش لونه احمر.

“سيدها” ينتظر العودة الى بيته، وقف في الموقف مع المنتظرين، نظر الي الواقفين وهم يتزاحمون في المساحة الصغيرة الجافة ويلعنون الحكومة و جشع المواصلات، لمح شابا يبدوا سعيدا بحوار مع فتاة تلبس ثوبا اتحدت اطرافه مع الطين، يبدو انها تصدق ما يقوله هذا الشاب فقد بدت سعيدة. اقترب منهم “سيدها” محاولا ان ينصت الى الونسة عسى ان يضيف عبارات يقولها الى “الجميلة” ينسيه طعم الشاورما. لحظات وادرك سيدها ان حوار الشاب والفتاة لا يليق بالجميلة. ذهب بعيدا واتكا على المظلة و سرح. غدا صباحا سيقول للجميلة ان الشاورما كانت عشائه وانها ذهب الى بيته جائعا لانه… ماذا لانه … هل يجرءو ان يقولها ؟ ماذا لو…. “سيدها” يعرف انه ليس الوحيد الذي تعجبه “الجميلة” فاغلب البائعين في الموقف معجبون بها، وهي تدرك ذلك ولا تصد احدا. ماذا لو كانت في غرام مع “بوكو” سائق الحافلة وهذا شخص عندو قروش ويستطيع ان يشتري لها الكثير من السندوتشات.

في اليوم التالي عاد سيدها الى محل الشاورما … هذه المرة طلب سندوتشين … واحد له والثاني “للجميلة” .. ضحك .. تناول كلاهما بنهم .. شبع … الحب والاورنيش كلاهما يلمع .. وحدها الشاورما من تكشف الاقنعة.
يمشي “سيدها” بشبع، يدندن غناوي المطر. هذا المساء ومشهد الارض المبتلة والناس تبحث عن ارض تقف عليها و”سيدها” متخم بالشاورما يدرك الان ان الشبع هو ايضا ارض جافة ومقعد خالِ في الحافلة.

احدهم ينادي: يا اخونا تعال اقيف هنا من المطر؟ اجاب “سيدها” بدون تفكير: يا زول انا ماكل شاورما؟ ضحك “سيدها” وهو ينظر الى الرجل الذي بدا محاولا فك طلاسم ما قاله. جاءت الحافلة و صعد الجميع، “سيدها” ما زال واقفا، ينتظر ان تاتِ “الجميلة” بعد ان ذهب مفعول الشاورما.
رصيف وحافلة وكلب اشتاق الى ضلاله… وذكريات اورنيش بين “الجميلة” والشاورما. مطر وضفدع.
ياسر خيري
مدريد 28.8.2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى