مقالات

لا تقرأ هذا المقال

بقلم / محمد سعيد شلي

 

لاحظ مستر Brown مؤسس حنتوب الثانوية وناظرها الشهير و في بداية عام دراسي جديد غياب طالب فأستفسر عن السبب فعرف أن والد الطالب توفي خلال العطلة الدراسية وأن عائلته قررت أن يترك الدراسة بوصفه الابن الأكبر ويخلف والده والذي كان من رجالات الإدارة الأهلية بدارفور.. وأن ما فعلته تلك العائلة أجراء تقليدي وأصيل في ثقافة مجتمع ذلك الطالب .

يقال إن مستر Brown أنزعج جدا لتوقف الطالب عن الدراسة وخاصة وأنه كان طالبا متميزا فقرر السفر إلى دارفور وأصطحب معه في سفره مدير مديرية النيل الأزرق ( نعم مدير المديرية ) واستخدما في سفرهما كل وسائل المواصلات المتاحة وقتئذ من قطار ولواري ودواب حتى وصلا إلى دارفور وهناك استعانا بمدير مديرية دارفور والذي سهل مهمتهما وتمكنا من الاتصال بعائلة ذلك الطالب واستطاعا وبعد جهد أقناع العائلة بأن يتولى أحد أخوته المسؤولية ويعود الطالب لمواصلة دراسته .

كان ذلك الطالب هو السياسي المخضرم محمد إبراهيم دريج الذي تخرج في جامعة الخرطوم وشغل عددا من المناصب الرفيعة في داخل وخارج السودان منها موقع المستشار للشيخ زايد .

أرجو عزيز القارئ أن تتأمل ذلك الحرص والجهد الذي بذل وعلى ذلك المستوى من أولئك ( الخواجات ) في سبيل إعادة طالب لمقاعد الدراسة ومحاورة عائلته في أمر بالغ الحساسية ويمس مباشرة ثقافة مجتمع ..والقارئ لكتاب (ذكرياتي في البادية) للأستاذ حسن نجيلة يجد كيف أن ( الاستعمار ) سعى لتوفير فرص التعليم للسودانيين ووصل في ذلك السعي حتى للبدو في جوف الصحراء فأنشأ المدارس المتنقلة Mobile schools في بادية الكبابيش .

كان المفتشون الإنجليز يقطعون الفيافي والقفار على ظهور الجمال للوصول لمضارب البدو ويجلسون معهم ” في الواطة ” ويأكلون معهم من ( قدح واحد ) ويشربون من مياه الآبار المالحة .. التقيت في مسقط بخواجة عجوز ( أكل الدهر عليه وشرب ) يعمل مستشارا في مجال البيئة ..وكان ذلك الرجل والذي أمضى زهرة شبابه بالسودان خلال فترة الإدارة البريطانية يحرص إذا رأى سودانيا أن يمزح ويتحدث معه بالعامية السودانية .تجول ذلك (الخواجة )ببادية الكبابيش ويكن أعجابا وتقديرا خاصا لأسرة الناظر علي التوم ويحتفظ بذكريات كثيرة جمعته مع ذلك الناظر الرقم .

وهناك مجموعة كبيرة من البريطانيين الذين عملوا بالسودان بلغ بهم التعلق بالسودان درجة أن بعضهم أوصى بدفن رماد رفاتهم في السودان منهم معلم الرياضيات ببخت الرضا والذي كانت من ضمن وصاياه أن يدفن رماد رفاته في ركن البيت الذي كان يقيم فيه ببخت الرضا ..مات ذلك المعلم بوطنه وتم تنفيذ وصيته بحذافيرها فقد تم جمع رماد الرفات ووضع في صندوق صغير ونقل ومن خلال الملحقية الثقافية في لندن وتم الدفن في المكان الذي حدده المعلم في وصيته .

وعلى ذكر بخت الرضا فالفضل في تأسيس ذلك الصرح يرجع لمستر Griffiths الذي قرر نقل مدرسة تأهيل المعلمين ( العرفاء ) من الخرطوم إلي مبروكة بالنيل الأبيض .. وأختار ذلك الرجل الحصيف منطقة مبروكة بنظرة تربوية ثاقبة فهي بيئة تكثر فيها الحشرات من عقارب وثعابين وخفاش..الخ وتعد قاسما مشتركا لبيئات السودان المترامي الأطراف ..شيدت مباني المعهد بالمواد المحلية من جالوص وعرش بلدي وكل ذلك جاء في إطار الإعداد والتأهيل للمعلم وبلغة أخري كانت منطقة شدة حتى قال عنها أحد منسوبيها ساخرا ( بخت الرضا ما البخت في واديك ..والبؤس باد في وجوه بنيك ) ..والمنهج الدراسي ببخت الرضا كانت محصلته المعلم الموسوعي والنجم الاجتماعي الذي تعلقت به قلوب الحسان ( يا الماشي لي باريس جيب لي معاك عريس شرطا يكون لبيس من هيئة التدريس ) ..وجاءت الأغنية على لحن أغنية ( سائق العظمة سافر خلاني وين ..).

وحول ذلك المعلم ( الكشكول ) والموسوعي حدثني الدكتور محمد خير عثمان وزير التربية والتعليم الأسبق يرحمه الله والذي تشرفت بمعرفته خلال عملنا سويا بسلطنة عمان..قال ان المعلم خريج بخت الرضا كان القدوة والمثال في المنطقة التي يعمل بها فقد تم تاهيله ليتقدم الناس في الصلاة.. ويغسل الجنازة ويصلي عليها ويؤدي عمل المرشد الصحي والاجتماعي والممثل المسرحي…الخ .

يلاحظ أن عددا من أبناء رجالات الإدارة الأهلية تتلمذوا ببخت الرضا والمؤسسات التعليمية الآخرى بتشجيع من الانجليز لقناعتهم بدور وأثر هذه الإدارة في مجتمع تقليدي كالسودان ومن ثم لم يحاولوا إلغائها بجرة قلم كما فعل الحكام الوطنيون بل كانت فكرتهم أن تظل الإدارة الأهلية ولكن بتحديثها وتطويرها وذلك برفدها بدماء جديدة من المستنيرين من أبناء النظار والعمد..

زر الذهاب إلى الأعلى