مقالات

عدالة السكاكين

بقلم /سيد فودة

منذ سنوات، وأنا أتنقل بين البلدان حول العالم، أبحث عن قصص لم تُروَ، وأصوات ضاعت في زحام الظلم والصمت، ومن أزقة المدن المكتظة في الشرق الأوسط إلى القرى النائية في إفريقيا وآسيا وامريكا اللاتينية، كانت رحلاتي دائمًا محفوفة بالشغف لكشف النقاب عن معاناة البشر، خاصة تلك التي تتصل بشكل مباشر أو غير مباشر بحقوق الإنسان، وحقوق المرأة والأطفال والمهاجرين واللاجئين على وجه الخصوص.

في كل بلد زرته، وجدت أن الصراع من أجل الكرامة والعدالة يتخذ أشكالًا متعددة، لكن القاسم المشترك دائمًا هو الألم والرغبة في التغيير.

لقد تحدثت إلى أمهات يبحثن عن الأمان لأطفالهن، ونساء تحملن أعباء العالم وحدهن، وأطفال فقدوا طفولتهم في ساحات الصراع والحروب أو تحت وطأة الفقر. قصصهم لم تكن مجرد حكايات عابرة، بل كانت نوافذ على واقع إنساني مُر، لا يمكن للعالم أن يتجاهله.

واليوم، أشارككم واحدة من تلك القصص التي أذهلتني بعمقها، وجعلتني أرى كيف يمكن لليأس أن يتحول إلى قوة، وللصمت أن ينفجر صرخة مدوية في وجه الظلم.

قصة اليوم لنساء هنديات في مدينة ناجبور وهذه القصة ليست مجرد حكاية عن انتقام؛ إنها شهادة على صراع الإنسان مع ذاته ومع مجتمعه عندما تغيب العدالة. سأروي لكم القصة اليوم، ليس لنندهش ونصدم مما حدث، بل لنسأل أنفسنا: كيف وصل العالم إلى هذا الحد؟ وما الذي يمكننا فعله لنضمن ألا تتكرر مثل هذه القصص مرة أخرى؟

“حكمتنا العدالة، وغابت العدالة عنّا. فكانت لنا عدالة أيدينا”.

بهذه الكلمات غير المعلنة، اختزلت 200 امرأة في مدينة ناجبور الهندية واحدة من أجرأ الانتفاضات النسائية التي عرفها العالم. كانت قصة أذهلت الجميع، ليس فقط لجرأتها، بل لأنها عكست يأس النساء حين يخذلهن القانون ويتآمر ضدهن النظام. هذه ليست مجرد قصة انتقام، بل هي صرخة مكتومة استمرت لسنوات وانفجرت كبركان في وجه الظلم والفساد.

القصة بدأت عندما قرر شاب اسمه آكو ياداف (٣٢ عام) الذي كان واحد من أشهر مجرمي العصابات في الهند ان يفعل كل ماهو اجرامي ووحشي وضد الانسانية و القيم والاعراف والقانون ، كان آكو ياداف، مجرمًا بوجه القانون وحاميًا برشوة رجال الشرطة. لم يكن مجرد سفاح عادي، بل رمزًا للقهر الذي عاشت تحته نساء مدينة ناجبور. أدار عصابة لا ترحم، وارتكب جرائم متوحشة: اغتصابات جماعية في وضح النهار، وقتل، وخطف، وابتزاز. كما كان يقتحم المنازل دون تردد، ويأخذ النساء أمام أعين أسرهن، ويغتصبهن مع عصابته في الشوارع.

المجرم

والأسوأ من ذلك حين كانت النساء يجرؤن على الشكوى، كان يُقابلن بالسخرية أو الإهانة من الشرطة نفسها، التي لم تكن فقط متواطئة بل شاركت في بعض الجرائم. عندما اغتصبت واحدة منهن وهي حامل في شهرها السابع، قالوا لها بتهكم: “أنتِ بالفعل في هذه الحالة، فما الضرر؟”

وحين اغتصبت أخرى، تناوب عليها رجال الشرطة في مركز الأمن. اعرف ان الكلام صادم ولكنه واقع وحدث بالفعل ، وللاسف يحدث في بعض الاماكن علي الكوكب حتي الان بسبب الظلم وانعدام الانسانية عند بعض اشباه البشر.

في 13 أغسطس 2004، استُدعي آكو ياداف إلى المحكمة مجددًا، في مسرحية اعتادت النساء على مشاهدتها: اعتقال، محاكمة صورية، ثم إطلاق سراحه وكأن شيئًا لم يكن. لكن هذه المرة، كان للنساء رأي آخر. خرجت دعوة خافتة بين الجارات: “لن يحدث هذا مجددًا. علينا التحرك”.

في مشهد يعجز الخيال عن تصوره، خرجت النساء مسلحات بسكاكين المطبخ، فلفل حار، وحتى أياديهن العارية. تجمعن، وهن يحمين بعضهن البعض، ليجدن أنفسهن في المحكمة، ينتظرن الجلاد.

دخل آكو القاعة وهو يضحك، يسخر من إحداهن قائلاً: “خمس دقائق وأعود لأفعل بك ما فعلت سابقًا”. كانت هذه الكلمات القشة الأخيرة. نهضت إحدى الضحايا، وأمسكت أداة حديدية، وضربته على رأسه صارخة: “إما نحن أو أنت”. عندها، انقض الجميع عليه، وبدأت ملحمة انتقام غير مسبوقة. لم تبقَ امرأة إلا وشاركت، حتى انتهى المشهد بمقتله، وحرق جثته أمام أنظار الشرطة التي هربت من القاعة.

ما حدث في ناجبور ليس مجرد انتقام بل كان إعلانًا صارخًا بأن النساء لم يعدن يحتملن هذا العالم المليء بالظلم. هذا الفعل ليس مبررًا وفق القوانين، لكنه مفهوم إنسانيًا في سياق الحرمان من العدالة لسنوات طويلة.

تُذكّرنا هذه القصة بمبدأ العدالة المنصوص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي يؤكد في المادة 3 أن لكل فرد الحق في الحياة والحرية والأمن. كما تشير اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW) إلى ضرورة أن تتحمل الدول مسؤولياتها في حماية النساء وضمان معاقبة الجناة. ومع ذلك، في ناجبور، كان النظام شريكًا في الظلم، مما دفع النساء لأخذ العدالة بأيديهن.

وفقًا لتقرير المجلس الوطني للجرائم في الهند (NCRB) لعام 2020، تُسجل الهند 87 حالة اغتصاب يوميًا، بينما يظل العديد من القضايا دون تحقيق نتيجة تواطؤ السلطات أو الفساد. أما على المستوى العالمي، تُظهر تقارير منظمة الأمم المتحدة للمرأة (UN Women) أن واحدة من كل ثلاث نساء تتعرض للعنف الجسدي أو الجنسي خلال حياتها، ومع ذلك تواجه الناجيات عراقيل في الحصول على العدالة.

عندما ألقت الشرطة القبض على خمس نساء بتهمة القتل، فوجئت بتوافد المئات إلى مركز الشرطة. تقدمت كل امرأة قائلة: “أنا من قتلت آكو”. حاولت السلطات إثبات التهمة ضد مجموعة محددة، لكنها فشلت أمام هذا التضامن الأسطوري. انتهى التحقيق بتسجيل القضية ضد “مجهول”، وإطلاق سراح النساء جميعًا.

ما حدث في ناجبور يعكس واقعًا مُرًا تعيشه النساء في المجتمعات التي يتغلب فيها الفساد على القانون، حيث لا خيار سوى الانتفاض من أجل الكرامة.

الرسالة واضحة: عندما تغيب العدالة، تصبح الكرامة هي السلاح الأخير.

إنه نداء لكل المجتمعات: لا تنتظروا أن يتحول القهر إلى انتقام. أعيدوا للنساء حقوقهن وامنحوهن حريتهن وأمنهن قبل أن يضطررن للدفاع عنه بأنفسهن.

 

زر الذهاب إلى الأعلى