١٧ نوفمبر.. المارش العسكري الأول.
مضت بتاريخ اليوم الاحد 17نوفمبر 2019 واحد وستون سنة على الاطاحة بالحقبة الديمقراطية الاولى بأنقلاب عسكري قاده الفريق ابراهيم عبود فى عام ١٩٥٨م..احتشدت الساحة السياسية في الايام التى سبقت الانقلاب باشاعات تتحدث عن انقلاب وشيك وعن سيناريوهات اخرى يجرى طبخها لأحداث تغيير سياسي تقف من وراء كواليسها الحكومة المصرية وخاصة بعد ان تصاعدت الخلافات بين الخرطوم والقاهرة حتى كادت ان تصل لمرحلة الصدام المسلح حول مثلث حلايب ..واشتد الخلاف ايضا بين عبدالله خليل رئيس الوزراء والدفاع وقتها وبين حزب الشعب الديمقراطى الشريك في حكومته والمعارض لبرنامج المعونة الامريكية الذي خصصته واشنطون للمنطقة وهو ذات البرنامج الذي عارضته حكومة جمال عبدالناصر ونظمت ضده حملة اعلامية كثيفة..( اكتشف ) عبدالله خليل مخططا يهدف الى ابعاده فقرر ان( يتغدى) بخصومه السياسيين قبل ان (يتعشوا به )..يقال انه اتصل باللواء احمد عبد الوهاب نائب القائد العام والأقرب فى انتمائه السياسي لحزب الامة الحزب الذي ينتسب اليه عبدالله خليل نفسه وعرض عليه فكرة ان يتسلم الجيش زمام الحكم في البلاد لفترة مؤقتة .. لعب اللواء احمد الوهاب دور الوسيط بين عبدالله خليل و قادة القوات المسلحة خلال فترة الاعداد والتنفيذ لانقلاب نوفمبر… وعندما علم الامبراطور الاثيوبي هيلاسلاسى بأن انقلابا عسكريا على وشك الوقوع في السودان اسىرع بالأتصال بشخصيات
سودانية نافذة مقترحا عليها ان من الافضل للفرقاء السودانيين التوصل الى حل سياسيى يجنب السودان الانقلاب العسكري المحتمل والذى اذا حدث سيفتح بابا لن يغلق وسيظل ذلك الباب الثغرة التى يدخل من خلالها العسكر فى الحياة السياسية ليس في السودان فحسب ولكن ستنتقل (عدوى التدخل ) للدول الافريقية الاخرى..لم تجد نصيحته اذنا صاغية فوقع الفأس على الرأس وحدث ما توقعه الامبراطور الاثيوبي بحذافيره…حرص عبود في بيانه الاول ومن باب التمويه ان يشير بأن من اهداف حكومته ازالة (الجفوة المفتعلة) مع مصر.. قلت من باب التمويه باعتبار ان الانقلاب جاء اصلا لتحجيم الدور و التدخل المصري في الشأن السوداني ولكن يبدو ان ( اختراقا) مصريا قد تم لاحقا بعد تنفيذ الانقلاب ليتحول ذلك التموية الى حقيقة ماثلة للعيان .. وكان اللافت للنظر فى انقلاب عبود اختيار العسكر لاحمد خير المحامي وزيرا للخارجية والذي لعب دورا مفصليا في مؤتمر الخريجين الذى قاد الحراك الوطنى ضد الاستعمار البريطاني …برر احمد خير للمقربين منه اسباب موافقته لشغل منصب وزاري في انقلاب اطاح بحكومة ديمقراطية منتخبة بأنه وافق حتى لا تنفلت الأمور وخاصة و ان ( هؤلاء الجماعة) حديثو عهد بمهام الدولة..ويقصد بالطبع بهولاء( الجماعة ) العسكر قادة الانقلاب ..لا خلاف اصلا ان عبدالله خليل كان من وراء الانقلاب ومن ثم كان من المنطق ان العسكر الذين لجأ اليهم لاستلام زمام البلد ان يمضوا في ذات النهج الذي كان يعمل عليه وخاصة فى سياسته تجاه مصر ..ولكن الشاهد ان النقيض قد حدث تماما فخلال فترة حكم الفريق عبود تم ( تجميد) النزاع حول مثلث حلايب والاطاحة باللواء احمد عبدالوهاب الذي لعب دور الوسيط في ذلك الانقلاب كما وافقت الحكومة السودانية على اعادة التوقيع على اتفاقية مياه النيل ودفع النوبيون ثمنا غاليا بذلك التنازل الذي قدمته حكومة نوفمبر للحكومة المصرية ليغادروا عنوة موطنهم بسبب ذلك (التنازل المعيب) ..ويعد ذلك الموطن من اعرق واقدم الحضارات في العالم وقد وثق لتلك الهجرة التراجيدية حسن دفع الله معتمد وادي حلفا وقتئذ في سفره القيم The Nubian Exodus .ويمكن القول ان الانقلاب الذي تسبب فيه عبد الله خليل قد تم اختراقه كما اشرت لينقلب لاحقا ضد المواقف المشهودة التى ارتبطت بشخصية عبدالله خليل والتى كانت ولا تزال مكان تقدير من الشارع السودانى ومنها قضية حلايب ..!!
( صحيفة الجريدة بتاريخ ١٧نوفمبر ٢٠١٩م)