التاريخ البشري ملئ بالأحداث العظام التي تركت بصماتها واضحة على حياة الناس في مشارق الأرض ومغاربها، ومن تلك الأحداث معركة بدر الكبرى أو يوم الفرقان. فقد أشرقت مطالع النور المحمدي على مكة المكرمة والجزيرة العربية، وخاصة الحجاز، وهي يومئذ تعج بأسوأ أنواع الكفر والانحراف في العقيدة بعد أن جلب عمرو بن لحي الأصنام وأدخلها حتى في جوف الكعبة، وصارت يعبدها الناس من دون الله ويلجأؤن إليها في كل كبيرة وصغيرة من شؤون دنياهم.
وكانت قريش آنذاك هي أقوى قبائل العرب لكونها تسيطر على سدانة البيت العتيق وسقاية الحاج، وكل ما يتعلق بخدمة البيت الحرام وحجاجه، كما أنها كانت قبيلة تعمل بالتجارة ولها رحلتان في السنة أحداهما في الشتاء إلى اليمن وأخرى إلى الشام في الصيف “لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف”، وبذلك حازت قريش عناصر القوة والهيمنة بما كان لديها من أموال ومكانة اجتماعية وفصاحة معروفة بين قبائل العرب، علاوة على عنصر النسب. وما كان الله ليذر الناس على ما هم عليه من إلحاد وفساد، فبعث فيهم رسولا من أنفسهم ولد لأب وأم معروفين ومن أرومة تشهد لها قريش بالشرف والكرم.
لكنّ قريشاً لم تكن على استعداد لقبول الدعوة إلى التوحيد كما جاء بها الإسلام فناصبته العداء وقابلته بالإنكار والتحدي منذ اليوم الأول وطفقت تنزل أشد أنواع العذاب والتنكيل بمن تبع دين محمد صلى الله عليه وسلم، خشية أن يفسد عليها هيمنتها وسطوتها، وأبى الله إلا أن يظهر دينه ولو كره الكافرون “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ” ولذلك هيئ الله تعالى لرسوله والمؤمنين الهجرة إلى يثرب التي صارت موئلا للإسلام بما وجد المهاجرون من ترحاب في كنف الأنصار فبدأت كفة الإسلام ترجح وتزداد أعداد المسلمين حتى صارت لهم منعة معقولة.
بدأ الرسول بترتيب أمر الناس في المدينة المنورة فوضع ما يشبه الدستور لتنظيم الحياة في تلك البقعة المباركة. ولقد كان الهدف من كتابة صحيفة المدينة هو تحسين العلاقات بين مختلف الطوائف والجماعات في يثرب، حتى يتمكن المسلمون واليهود وجميع مكونات المجتمع المدني من التصدي لأي عدوان خارجي على مدينتهم. وبإبرام ذلك العهد وإقرار جميع الفصائل بما فيه أصبحت المدينة المنورة دولة يسودها الوفاق ويرأسها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والمرجعية العليا فيها للشريعة الإسلامية، وجميع الحقوق الإنسانية مكفولة فيها كحق حرية الاعتقاالصبر الاستراتيجي… قوة الموقع وقوة اللحظةد وممارسة الشعائر والمساواة والعدل.
بعد هذه الخطوة الموفقة واستتباب الأمر في دار الهجرة، بدأ الرسول في اتخاذ خطوات استراتيجية ليأمن جانب قريش؛ لذلك كان من الضروري أن يفكر المسلمون في إضعاف موقف قريش وكسر شوكتها وخلخلت نفوذها بين قبائل العرب، حتى يأمنوا شرهم ويتمكنوا من نشر دين الله وإبلاغه للناس في كافة أرجاء الجزيرة العربية بكل يسر وسهولة. وبما أن قوة قريش كانت تمكن في سيطرتها على أهم طرق القوافل كان لا بد من استهداف قوافلها التي تتجه إلى الشام لمرورها بالقرب من المدينة المنورة.
ذات يوم سمع الرسول صلى الله عليه وسلم بقدوم قافلة لكفار قريش من الشام يقودها أبو سفيان بن حرب محملة بالبضائع والنقود فانتدب الرسول صلى الله عليه وسلم مجموعة من المسلمين ليعترضوا تلك القافلة ويأخذوا ما فيها عوضاً عن أموال المهاجرين التي استولت عليها قريش عند خروجهم من مكة! قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: “هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها”.
وقد علم أبو سفيان بالخطر المحدق بقافلته فأرسل ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة يستنجد بقريش. فخرجت قريش مسرعة بغضها وغضيضها لإنقاذ عيرها ورجالها ولعلها تلتقي مع المسلمين فتقضي عليهم حتى لا يهددوا تجارتها مستقبلاً. وبما أن هدف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كان فقط الاستيلاء على تلك القافلة، لم يخرجوا بأدوات القتال ولم يفكروا فيه مطلقاً.
في واقع الأمر كانت موقعة بدر تخطيطاً ربانيا محكما من حيث اختيار الزمان لتكون في صبيحة 17 رمضان من العام الثاني للهجرة النبوية، وكان موقعها في أرض بدر الواقعة على طريق قوافل الشام بين مكة والمدينة. فقد جاء في سورة الأنفال قول الله تعلى متحدثا عن مكان المعركة: ” إذ أَنتُم بالعدوة الدنيا وَهُم بالعدوة ٱلۡقُصۡوَىٰ وَٱلرَّكۡبُ أَسۡفَلَ مِنكُمۡۚ وَلَوۡ تَوَاعَدتُّمۡ لَٱخۡتَلَفۡتُمۡ فِي ٱلۡمِيعَٰدِ وَلَٰكِن لِّيَقۡضِيَ ٱللَّهُ أَمۡرٗا كَانَ مَفۡعُولٗا لِّيَهۡلِكَ مَنۡ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٖ وَيَحۡيَىٰ مَنۡ حَيَّ عَنۢ بَيِّنَةٖۗ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ” (42).
ومع هذا فإن المعركة لم تخلو من الأخذ بالأسباب بما في ذلك المشورة بين الرسول وأصحابه فيما يتعلق بموقع المعركة حيث جعلوا بئر بدر خلفهم وطمسوا ما سواها من برك المياه، فكانوا يشربون ولا يشرب الكفار وهذا في حد ذاته سلاح مما استخدم في تلك المعركة التي فصلت بين الحق والباطل. كما أن الرسول جعل أصحابه في صفوف متراصة للقتال وكانت تلك أول مرة يرى فيها العرب مثل ذلك الترتيب الحربي الذي لم يكن مؤلفاً لديهم من قبل. وفي تلك الأثناء بني الصحابة عريشة لتكون بمثابة غرفة تحكم ومركز قيادة جلس فيها الرسول ومعه كبار صاحبته وصار يدعو على كفار قريش وهو يقول: ” اللهم أنجز ما وعدتني، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام، فلا تعبد في الأرض أبدا” وهذا يدل على مشروعية الدعاء وسؤال الله النصر والاستغاثة به في حالة الحرب بين المسلمين وأعدائهم. وجاءت الإجابة فورا وفقاً لقول الله في الآية (9) من سورة الأنفال:” إذ تستغيثون ربكم فأستجاب لكم أَنِّي مُمِدُّكُم بألفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ مردفين”.
وثمة ملاحظة لابد من الإشارة إليها في هذا السياق ألا وهي أن معركة بدر قد وقعت في العام الثاني من الهجرة وذلك بحساب السنين وقت قصير لكن يلاحظ أن المسلمين تعاملوا مع موضوع اعتراض القافلة كقضية تخصهم جميعا وليس المهاجرين فحسب، لكونهم قد أخذت أموالهم في مكة، وهذا يعني أن مجتمع المسلمين من مهاجرين وأنصار قد اندمج وصار كتلة واحده وإن شئت فقل جسداً واحداً كالبنيان المرصوص؛ وذلك بفضل الدين السمح وحسن تدبير الرسول صلى الله عليه وسلم الذي آخي بينهم فصاروا إخوة متحابين في خلال تلك الفترة الوجيزة، وهكذا ينبغي أن يكون ديدن المسلمين في كل زمان ومكان “إنما المؤمنون إخوة”.
وأمر آخر تجدر الإشارة إليه هو الأطراف التي شاركت في تلك المعركة وهم من جانب أفضل أهل الأرض في ذلك الوقت وهم المسلمون بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقابلهم أسوأ أهل الشرك حينها وهم كفار قريش بقيادة عمرو بن هشام المخزومي. كما شاركت الملائكة نصرة للمسلمين فقد نصت الآية 12 من سورة الأنفال كما يلي: ” إذ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ أَنِّي معكم فَثَبِّتُواْ الذين آمنوا سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب فاضربوا فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ واضربوا منهم كُلَّ بَنَانٖ” (12). وروي أن الرسول صلى عليه وسلم قال: ” أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل معتجر عمامته، آخذ بعنان فرصه يقوده على ثنايا النقع، أتاك نصر الله وعدته”. ووعد إبليس المشركين بأنه معهم، ولكنه نكص على عقبيه عندما رأي الملائكة كما جاء في سورة الأنفال: “وَإِذۡ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ ٱلۡيَوۡمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٞ لَّكُمۡۖ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلۡفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيٓءٞ مِّنكُمۡ إِنِّيٓ أَرَىٰ مَا لَا تَرَوۡنَ إِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَۚ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ (48).
ونحن نتحدث عن بدر ينبغي علينا الوقوف على بعض العوامل التي ساعدت في النصر ومنها مبدأ أن الحرب خدعة فقد ذكر في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر قد خرجا بغرض الاستطلاع عن جيش قريش فمرا بشيخ كبير فسالهما ممن هما: فأجابه الرسول: ” نحن من ماء” وتركاه يردد “من ماء، أمن ماء العراق” وهذا الأسلوب جائز من أجل عدم كشف أسرار المسلمين في مثل تلك الظروف. ومن تلك العوامل الطاعة المطلقة التي أبداها المسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال سَعدُ بنُ مُعاذٍ: “فوالذي بعَثَكَ بالحَقِّ، إنِ استعرَضتَ بنا هذا البَحرَ، فخُضْتَه؛ لخُضْناه معك، ما يَتخلَّفُ منَّا رَجُلٌ واحدٌ، وما نَكرَهُ أنْ تَلقى بنا عَدوَّنا غدًا”. فهذا تفويض صريح للرسول صلى الله عليه وسلم بخوض المعركة وعهد بنصرة الأنصار له.
من جانب آخر سخر الله للمسلمين أسباب مادية ومعنوية من عنده حتى يمكنهم من النصر الذي وعدهم فأنزل عليهم النعاس والسكينة والمطر فقد جاء في سورة الأنفال قول الله تعالى: ” إِذۡ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ” (11). وألقى الله الرعب في قلوب الكافرين فقد قال سبحانه: ” إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ منهم كُلَّ بَنَانٖ” (12). وروى أنس بن مالك عن ابي طلحة أنه قال: “غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم بدر، فكنت فيمن غشيهم النعاس يومئذ فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه”. ومن حكم الله في يوم بدر أن قلل الطرفين في أعين بعضهما البعض ليقضي الله أمر كان مفعولا كما جاء في سورة الأنفال : “وَإِذۡ يُرِيكُمُوهُمۡ إِذِ ٱلۡتَقَيۡتُمۡ في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم لِيَقۡضِيَ ٱللَّهُ أمرا كَانَ مَفۡعُولٗاۗ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ (44). وكما أسلفنا فإن من عوامل النصر الدعاء فقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الابتهال إلى الله: “اللهم هذه قريش قد اقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة”. ومنها أيضا حث المسلمين وتحريضهم على الصبر والثبات فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة”.
التقى الجيشان ودارت معركة حامية الوطيس وجندل المسلمون رؤوس الكفر وصناديد قريش في مصارعهم التي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل بداية المعركة، وانتهت غزوة بدر الكبرى أو يوم الفرقان بانتصار المسلمين على عدوهم وكانت النتيجة هلاك سبعين رجلا من المشركين على رأسهم عمرو بن هشام فرعون هذه الأمة أبو جهل وأسر سبعون أما المسلمون فاستشهد منهم أربعة عشر رجلاً، هم أهل بدر.
ومن الدروس المستفادة من غزوة بدر كيفية التعامل مع الأسرى وتوزيع الغنائم فقد أراد الله أن يقدم للمسلمين درساً في هذ الصدد خاصة بعدما اختلفوا في توزيع الغنائم فقد ذكر عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه متحدثاً عن سورة الأنفال: “فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسول الله فقسمه صلى الله عليه وسلم على بواء (يعني السواء)”. وفيما يتعلق بالأسرى قال الله تعالى: “مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ له أسرى حَتَّىٰ يثخن فِي ٱلۡأَرۡضِۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا والله يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ” الأنفال 67).
هذه المعركة الفاصلة وثق لها القرآن الكريم في سورة الأنفال فصارت أحداثها محفوظة ما تعاقب الجديدان فهي قد وضعت حداً فاصلا بين الحق والباطل وكسرت شوكة قريش وفتحت الباب على مصراعيه لينداح الإسلام في كافة أرجاء الجزيرة العربية ومهدت الطريق لدخول الناس في دين الله أفواجاً.

