
الله يا خلاسية
يا حانةً مفروشة بالرمل
يا بعض زنجية وبعض عربية
بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت
كعادتها أرض كردفان البكر والتي أنجبت عددا مقدرا من النخب في مجالات الشعر ، الفن، الأدب، السياسة ،أشهرهم رئيس اتحاد الفنانين السودانيين الفنان الدكتور عبدالقادر سالم فقد. أهدت السودان شاعراً فذاً يجتاز الثريا، الا وهو محمد المكي ابراهيم المعروف بشاعر (الاكتوبريات) نسبة لما أنشده في ظل ثورة اكتوبر في العام 1964 ، شاعر مفعم بالحب واالحنين لوطنه الكبير السودان غير ناسٍ لموطنه الصغير كردفان (الغرة ام خيراً جوة وبرة)كما يحلو لنا نحن السودانيين توصيفها لكثرة خيرها وما تجود به على السودانيين عامة واهل كردفان خاصة.
ولد شاعرنا محمد المكي في بئية تمتاز بطبيعتها الملهمة للشعراء برمالها وقيزانها المترعة بالحب المزدانة بالجمال ( مدينةالابيض) عروس الرمال وعاصمة شمال كردفان التي ذكرها الشاعر محمد الامين الامي وتغنى بها الفنان عبدالقادر سالم:
مكتول هواك يا كردفان :
اسير غزال فوق القويز
كلام غزل معسول لذيذ
دمعات عتاب
من زولاً عزيز سالت بحر
شالت قليب في كردفان
مكتول هواك يا كردفان
في تلك البقعة الطيبة ولد شاعرنا محمد المكي ابراهيم (ود المكي) ، ونال فيها تعليمه الابتدائي والمتوسط والتحق بمدرسة خور طقت الثانوية والتي كانت ثالثة ثلاث مدارس يلتحق بها النوابغ من جميع انحاء السودان ، اضافة لوادي سيدنا الثانوية ومدرسة حنتوب الثانوية.
بعدها التحق بكلية القانون بأم الجامعات السودانية (جامعة الخرطوم) التي ظلت منارة للعلم ورافدا للمعرفة،حيث اقتصر الالتحاق بها في ذاك الزمان على المتميزين من طلبة العلم.
لم يقف طموح شاعرنا عند كلية القانون وجامعة الخرطوم، بل هاجر الى فرنسا ملتحقاً بالسوربون لدراسة اللغة الفرنسية والدراسات الدبلوماسية.
حيث تأهل بعد ذلك للإلتحاق بالسلك الدبلوماسي الذي تدرج فيه حتى درجة السفير، فقد كان مؤهلاً لكل ماهو فخيم بمقاييس الوظيفة والأدب ، ومثّل السودان في عدد من الدول الافريقية والأسيوية وفي نيويورك وغيرها من المحطات الخارجية المهمة . اما في رئاسة وزارة الخارجية فتقلّد منصب مدير الادارة الافريقية .
هاجر ود المكي تسعينيات القرن الماضي الى الولايات المتحدة الامريكية واستقر فيها رغماً عنه ورغم حبه لوطنه الذي لم تبعده عنه الا رمضاء السياسة وكان حاملا همه في حله وترحاله .
.رغم غربته لم يغفل عما يدور في بلاده وكان شعره جسراً بينه ووطنه معايشاً لمعاناته فسالت مشاعره أدبا يروي عطش الساحة الثقافية ويثري منتدياتها شعراونثرا.
حمل شعره قيماً جميلة ، فخلط بين الحق والحب والوطنية والتصوف والخير والجمال
تغنى بوطنية مثلى لثورة اكتوبر في اشهر قصائده التي لا تزال خالدة بصوت فنان افريقيا الاستاذ محمد وردي،( اكتوبر الاخضر) والتي يقول مطلعها:
باسمك الاخضر يا اكتوبر الارض تغني
والحقول اشتعلت قمحاً ووعداً وتمني
اسمك الظافر ينمو في ضمير الشعب إيماناً وبشرى
وعلى الغابة والصحراء يلتف وشاحاً
وبأيدينا توهجت ضياءً وسلاحاً
فتسلحنا بأكتوبر لن نرجع شبرا
سندق الصخر حتى يخرج الصخر لنا زرعاً وخضرة
ونرود المجد حتى يحفظ الدهر لنا إسماً وذكرى
باسمك الأخضر يا أكتوبر الأرض تغنّي والحقول اشتعلت قمحاً ووعداً وتمنّي
والكنوز انفتحت في باطن الأرض تنادي
باسمك الشعبُ انتصر
حائط السجن انكسر والقيود انسدلت جدلة عرس في الأيادي
وكان متصوفاً مفتوناً بحب خير الخلق فكتب ،ينفث شوقه وحنينه وحبه لمدينة الرسول الله صلى الله عليه وسلم المنورة في قصيدة مترعة بالصدق والوصف البهي قائلا: (
مدﻳﻨﺘﻚ الحقيقة والسلام
مدينتك ﺍﻟﻬﺪﻯ ﻭﺍﻟﻨـــﻮﺭ
ﻣَﺪﻳﻨﺘﻚَ ﺍﻟﻘِﺒﺎﺏ
ﻭﺩﻣﻌﺔ ﺍﻟﺘﻘﻮﻯ ﻭﻭﺟﻪ ﺍﻟﻨﻮﺭ
ﻭﺗﺴﺒﻴﺢ ﺍﻟﻤﻼﺋﻚِ
ﻓﻰ ﺫﺅﺍﺑﺎﺕِ ﺍﻟﻨﺨﻴﻞ
ﻭﻓﻰ ﺍﻟﺤﺼﻰ ﺍﻟﻤﻨﺜﻮﺭ
ﻣﺪﻳﻨﺘُﻚَ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔُ ﻭ ﺍﻟﺴﻼﻡ
ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺴُﻔﻮﺡِ ﺣﻤﺎﻣﺔٌ
ﻭﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮُﺑﺎ ﻋُﺼﻔﻮﺭ …
ﻣﺪﻳﻨﺘُﻚَ ﺍﻟﺤﺪﻳﻘﺔُ ﻳﺎ ﺭﺳـﻮﻝَ ﺍﻟﻠﻪ
ﻛُﻞّ ﺣﺪﺍﺋﻖِ ﺍﻟﺪُﻧﻴﺎ ﺃﻗﻞُ ﻭﺳﺎﻣﺔً وحضور
مدينتك النور
وتسنمت قصيدته (جيل العطاء) ظهر القصائد، فقد ابدع فيها بوصف جيله المتعطش للحرية المتمسك بالمبادئ المتطلع للسماء لصياغة الحياة وفق ما يهوى.
زامل ود المكي ورافق العديد من شعراء الحداثة السودانيين وأسس خلال مسيرته العامرة بالعطاء والتدفق الفكري والشعر الرصين مدرسة (الغابة والصحراء) مع عدد من الشعراء المخضرمين تاركاً بصمة لن تمحى من تاريخ الشعرالحديث كما الف عدد من الكتب منها:( الفكر السوداني… أصوله وتطوره)، (بين نار الشعر ونار المجاذيب).
يعتبر ديوانه(بعض الرحيق انا والبرتقالة انت) من أجمل دواوينه واشهرها ، اضافة الى (امتي)وعدد غير قليل من الدواوين الأخرى.
الأديب والكاتب السوداني محمد الخير حامد يقول عن ود المكي بانه : من المثقفين والكتاب القلائل الذين إن ذهب أحدهم يقولون مَر وهذا الأثر. وقد خلّد نفسه كأديب كبير، وشاعر مؤثر وفطحل، ووضع بصمته الواضحة في الوجدان السوداني. وشعره مميز وصاحب تعابير شعرية غاية في الابتكار والجمال. وان كلماته ملهمة، وصوره الشعرية غنيّة بالدلالات، وراسخة المعاني، مما جعلها خالدة ومحفورة في أذهان قُراء الشعر ,كتب للإنسانية عامة، ولأمته، وحمل الوطن في حدقات عيونه، وفي كل المعاني السامية كتب بفنيات عالية ودهشة لا تنبع إلّا من مبدع خلّاق:
من غيرنا يعطي لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصر
من غيرنا ليغيّر التاريخ والقيم الجديدة والسير!!…
وهو فوق ذلك دبلوماسي أديب، وكاتب صحفي، وحامل مشعل ورأي، مثّل أنموذجا للدبلوماسي المثقف، وفي ذلك فهو يتلاقى مع كبار الشعراء السودانيين، صلاح أحمد أبراهيم، الفيتوري، سيد أحمدالحردلو، وغيرهم من نجوم الأدب والدبلوماسية.
قبل رحيله بقليل تم اختياره لتميزه وتأثيره الثقافي الأنساني والابداعي في الساحة الثقافية لمنحه جائزة الاتحاد العالمي للشعراء، وفق توجيه صادر بواسطة رئيس الاتحاد الأستاذ عبدالله الخشرمي.
توفى محمد المكي ابراهيم مع استشراف شهر اكتوبر الذي أحب وانسال فيه شعرا ثوريا ولقب به (شاعر الأكتوبريات) فقد توفي ولم يبق من شهر اكتوبر الا يوم واحد في 29 سبتمبر من العام 2024 وكان يمني نفسه بالعودة الى تراب السودان الذي احب ويقبر فيه الا أن المنية داهمته ووري الثرى خارج السودان بالقاهرة حيث كان يستشفى وترك فراغا في الفكر والأدب والثقافة لن يملؤه غيره.






