ثقافة

يمني يصف الخرطوم ومقهى شاش في كتابه : مزاج المدن

(فصل خاص بمدينة الخرطوم ومقهى شاش مقتطف من كتاب مزاج المدن لمؤلفه / أكرم عطيف )

الخرطوم عاصمة النيلين أبيضه وأزرقه حيث ماء الجمال في قلب مدينة
هناك في العربي اعرق اسواق الخرطوم واكثرها ازدحاماً
وعنوان ثقافتها الأبرز
وانت تجول بين شوارعه ستلتقي على أرصفته
عناوين العقول
وستقلب ناظريك
بين دفات الكتب تحت ظل احدى عمائره التي تقيك شيئاً من قيض حرِّ الخرطوم المريع
وستذوب سخانة شمسها في ثلج معرفتها المملؤة ثقافةً وتنوعًا
بائع الكتب على الرصيف سيدهشك بكمِّ إطلاعه
وستناقشه في ما يحلو لك من عناوين العقول لتلك الكتب واذا به يفاجئك بملخص قد لا تصل لعمقه وانت القارئ النهم!!

مقهى الشجرة ….

هنا في منتصف القلب من خرطوم النيل وفي الديم تحديدًا
مقهى ترابي صغير يعرف (بمقهى شاش) بشجراته الأربع وارفة الظلال
يحتويك بين ذراعيه لتكون أحد رواده
هنا ستجد مجتمعاً سودانياً مصغرا
علامته الأبرز دفء القلوب وبشاشة المحيا
ستنتقل فيه إلى أزمنة مختلفة من بداية تأسيس مدينة الخرطوم مروراً بأيامنا هذه في زمن العولمة وانترنت الأشياء
وستسكن ذكرياته في وجدانك
أدركت من رواده من جيل الستينيات والسبعينيات
بل أخبرني أحدهم أنه من عام 1975 لم يفارق هذا المكان ابداً الا لضرورة ليس له فيها يدٌ أو حيله
وكأنه يريد أن يقول لك هذا بيتي الثاني 🌹🌹🌹
أخذتني أقدامي ذات يوم للديم بجوار مسجد طيفور
لتناول وجبة الغداء حيث كانت هناك بعض المطاعم التي تبيع طعام الأحباش ووجبتهم المفضله الزقني
فإذا بي امر من تحت شجرات مقهى الديم
لأجد مجموعة من رواده وقد جلسوا في منتصف المقهى الترابي يلعبون الشطرنج فبادرتهم بالتحدي ولكن على شرط أن آتيهم بعد أن اتناول وجبة الغداء
وما أن رجعت حتى وجدت منهم أجمل ترحاب وكرم ضيافة وود في الحديث أنساني مشاغل اليوم الباقيه
لِأُزاحمهم طاولة اللعب ونسيت نفسي لساعات قاربت منتصف اليوم وقبيل الغروب
ولعلها من من أجمل الاقدار التي ساقتني فيه اقدامي
لهذا المكان المفعم بالحيوية
هنا اختلطت المشاعر وتوزعت معاني الحياة
حيث اختلاف الخبرات وتنوع المشارب الفكرية
مقهى جمع أطياف المجتمع السوداني جنوباً وشمالاً
شرقاً وغرباً
مدنية الحياة وبساطة الريف
سترهف مسمعك على وقع أنغام تدلى شعرها الذهب تدلى وما انسكب
بصوت فنان السودان الكبير صلاح بن الباديه
وعلى أثير الأغنية التراثية بلحنها الجميل
حد يشعر بالسعادة يمشي يختار البعاد
حكمة والله وحكاية تشغل اذهان العباد

ومن الحناجر الذهبية لمذيعي الأخبار في راديو السودان وهم ينقلون أخبار العالم ممزوجةً بتفاصيل من أخبار وطنهم الأم وهي تداعب مسامعك

من هنا جاءت حكاوي المقهى العتيق
بلهجته السودانية
يقابلك الجميل حيدر الفضل المعروف في المجتمع الشطرنجي بحيدروف أو أسد الهضبة كما يحلو للبعض تسميته
ويقصد بها الهضبة الأثيوبية
هذا الحيدر الراقي شعلة من النشاط حيث كان مدخلي لعالم الشطرنج السوداني والمجتمع السوداني بمختلف أطيافه

أسد الهضبة في سردياته الشيقة عالم متنوع من الثقافة المنفتحه على الآخر
وسلَّة شملت فاكهة المعرفه بمختلف فنونها على عادات أهل السودان في ثقافة فكرهم العالي والتي تشرَّبوها من الصغر

كم هو ظريف هذا الحيدر بدعابته التي تحمل شيئًا من الطُرفةِ والسُخرية احياناً لتضيف جزءً جميلاً لمجتمع مقهى الشجرة الذي تمارس فيه البساطة السودانية دون تحفظات
حيث براءة الأحاديث والقاء الكلام على عواهنه
بقصد الترفيه والترويح عن النفس

مجتمع البساطة حيث تشعر النفس بذاتها
زمن اقتناص اللحظات العابرة
ليعيد تشكيل الذاكرة
واظن ان المقهى سيحتفظ بذاكرة سودانية لأجيال قادمة
القناعه هنا صفة سائدة لرواد هذا المقهى
حيث يقضي الكثير منهم جزء من النهار يكسب قوت يومه
ثم يأتي ليجلس مع رفاقه ليمضي ما تيسر له من وقت
في جلسات وناسه مع زملاء الرقعة الشطرنجية وورق الكوتشينة وطاولة الزهر ليذيب ما تراكم من جليد وجع الجري وراء لقمة العيش

مقهى بسيط بين دفتي صفحاته كتاب من تاريخ السودان الحديث
هنا ستجد الطبيب والمهندس ورجل الأعمال والتاجر والمزارع ورجل الأمن والكاتب والصحفي
والعامل البسيط
خليط من مشارب متعددة
وقاسمهم المشترك بساطة الملامح وبشاشة الوجه
وسمرة طين السودان الذي شكل ملامحهم
ورافدهم الاكبر ثقافة الانتماء لوطنهم
وتقافة الاطلاع التي تميزهم كسودانيين

في طرف المقهى زائرين من دول الجوار الافريقي
كتشاد والنيجر وجدو لقمة عيشهم في هذا البلد
ونخبة من المنفيين من اوطانهم من الحبشة واريتريا والصومال يتداولون أخبار بلدانهم بشغف المبعد عن عشقه الأول
البعض منهم عاد لبلده وقد استقى علمه وشهاداته من السودان وتشبع بثقافتها ليصبح وزيراً او مسؤلاً في بلده
في منتصف القلب من المقهى بائعة الشاي او ماتعرف بالدارجة السودانية ست الشاي
يعبق اريج قهوتها في المكان
مشكلاً تناغماً بين المحسوس واللا محسوس
وعلى مقربة من الشعور ستنافس رائحة الجبنه
او قهوة المزاج
فروع اغصان شجر النيم
هنا السودان تنوع افريقي وعربي كبير
فهو يمتد الى أهله العرب بسبب وإلى جذور الأرض وإقريقيته بسبب آخر
لغة عربيه يفتخر الافارقة بها وينطقها
وانتماء إلى الأرض بشجره العتيق بكركديه وتبلديه وعرديبه وصمغه العربي في أحايين أخرى

في ثنايا هذا المقهى جدارية الألوان هي سِمَتُ المكان وعبق تنوعه
مشارب شتى إلا أنَّ الهوى واحد
السودانُ الجامع لكل ألوان الطيف

لهذا المقهى مِزاجٌ سوداني خالص فيه الفرح والغضب والحزن وروح دعابة ٍ تُلطف الأجواء

لك أن تعرف سيدي القارئ ان هذه البلاد تعشق البخور ويعشقها
ستشتمُّ رائحته في الاجواء من حولك ينبعث من المحلات والبيوت ومجالس الجبنة وكاسات الشاي
هنا اضواء المدينة وشموسها
تعانق نفحات الشذى المنبعثة من أقرب مبخرة تنشر بخورها في الأفق ….

# أكرم عطيف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى